ما هو القلب
صفحة 1 من اصل 1
ما هو القلب
تابـــــع
10- موضع الانقلاب:
القلب هو أرق أعضاء الجسم وأسرعها تأثرا بما يحيط به ويغشاه، ومن رقته أن تؤثر فيه أدنى خاطرة وأقل هاجس، وأثر القليل عليه كثير، فالآفات إليه أسرع، وهو إلى الانفلات أدنى، ومن الانقلاب أقرب، فإن قلب المرء وإن صفا زمنا، وثبت على الايمان فترة، واستلذ بحلاوته حينا، فإنه معرَّض للانتكاسة، وهذه هي طبيعة القلب ومنها اشتُقَّ اسمه، قال القرطبي وهو يشرح معنى كلمة القلب: "وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته، وقلبت الإناء: رددته على وجهه، ثم نُقِل هذا اللفظ فسُمِّي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان لسرعة الخواطر إليه ولترددها عليه كما قيل:
ما سُمِّي القلب إلا من تقلبه***فاحذر على القلب من قلب وتحول" (تفسير القرطبي:1/232)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة، تعلقت في أصل شجرة، يقلبها الريح ظهرا لبطن» [صححه الألباني], وإن القلب شديد التقلب سريع التحول، ويضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلا فيقول: «لقلب ابن آدم أسرع انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا» [رواه أحمد والحاكم]
إن بقاء قلب المؤمن على الدرجة الرفيعة من الايمان التي يجدها بعد أعظم العبادات قدراً، وعقب أكثر المواسم خيرا وفضلا؛ أمر مستحيل؛ لشدة انشغال القلب بالدنيا وملذاتها، وما يعتريه فيها من أفراح وأتراح، بل وتعرّضها لغزوات الشيطان المتلاحقة، وتلاعب اليهود بالعورات، وعزفهم على وتر الأهواء، ومع ذلك أريد أن أطمئنك وأُخوِّفك في الوقت ذاته مادام تقليب القلوب بيد الله وحده.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرِّفه حيث يشاء»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك» [رواه مسلم]
أخي.. لقد صليت اليوم خمس صوات فأجبني صادقا: كم مرة دعوت بهذا الدعاء؟! مع أنك أحوج إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتن اليوم أعم وأطغى، والقلب أضعف وأوهن، فاحرص على ما بينك وبين الله، وصِل ما انقطع من حبالك معه حتى يثبِّتك على مرضاته اليوم ويهديك.
11- أطباؤه مرضى:
وطب القلوب من العلوم التي شحَّت في زماننا، ونتج عنه المرض الذي عمَّ وانتشر حتى أصاب كثيرا من علمائنا وحاملي دوائنا؛ فحفظت أذهانهم الشروح والمتون، ونسيت جوارحهم الهدى والمنون، وقالت ألسنتهم أنهم عالمون ونطقت أفعالهم أنهم جاهلون.
وأكثر علماء زماننا نوعان:
نوع منكب على حطام الدنيا لاهث ورائها، لا يمل جمعها، ويتقلب شهره ودهره في ملذاتها، وقد أخذت دنياه بمجامع قلبه، ولزمه خوف الفقر وحب التكاثر؛ وأكثر هؤلاء دُفِع إلى ذلك دفعا وأُريد له أن ينشغل بالسعي وراء لقمة العيش والكدِّ من أجل الرزق وأُعطوا في مقابل ذلك الكفاف؛ ليس غير الكفاف، ليظلوا دوما غارقين في الإعصار، دائرين في الرحى، لا يبلغون ما يأملون، ولا يتركون السعي إلى ما يطمحون، وبذلك نسوا أسمى مهامهم وأشرفها وهي وراثة الأنبياء والقيام بوظيفة الرُّسل.
ونوع آخر اختصر الطريق على نفسه، ورضي بالحرام السهل، والشبهة المربحة، واتخذ الإيمان سلعة، يبيع بعضه أو كله، ويقبض الثمن توسعة وإكراما وإغداقا وأموالا، أهل تصنُّع ودهاء، وتزين للمخلوقين، وتملُّق للحكام، يلتقطون الرُّخص ويفتون بها، ديدنهم المداهنة، وطريقهم المنافقة، ولذا عمَّ البلاء وعزَّ الدواء، وقد سبق للعالم المجاهد عبد الله بن لمبارك أن رأى أحد إخوانه يسلك أول هذا الطريق فقام بواجبه في النصح على الفور، ومدَّ له يد العون، وما أطيب سيرة رجل كابن المبارك كأريج الزهور تنقلها الريح من سهل إلى سهل ومن عصر إلى عصر متجاوزة حدود الزمان والمكان، لتنقل لنا أنه لما قيل له: إن اسماعيل بن علية قد ولي الصدقات كتب إليه ابن المبارك أبياتا من الشعر تصلح لكل زمان سرى فيه هذا الداء فقال:
يا جاعل العلم له بازيا*** يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها*** بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعد ما *** كنت دواءً للمجانين
أين رواياتك في سردها*** عن ابن عون وابن سيرين
أين رواياتك والقول في *** لزوم أبواب السلاطين
إن قلت أُكرهتُ فماذا كذا *** زلَّ حمار العلم في الطين
فلما قرأ الكتاب بكى واستعفى. (صفة الصفوة:4/140)
وإن كان لموت القلب علامات تختلف من شخص إلى آخر ومن مهنة إلى أخرى؛ فإن أبرز علامات موت قلب العلماء وأشهرها هي ما عرفناه من مالك بن دينار الذي قال:
"سألت الحسن: ما عقوبة العالم؟ قال: موت القلب. قلت: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة" (شعب الإيمان:2/296)
وسمَّاهم ربيعة الرأي بالسفلة وسفلة السفلة، فقد روى الإمام الجليل مالك بن أنس: "قال لي استاذي ربيعة الرأي: يا مالك! من السفلة؟ قلت: منأكل بدينه، فقال: فمن سفلة السفلة؟ قال: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه" (شعب الإيمان:5/357)
أظهروا لله دينا *** وعلى الدينار داروا
وله صاموا وصلو *** وله حجوا وزاروا
لو بدا فوق الثريا *** ولهم ريش لطاروا (العقد الفريد:3/169-170)
عالم السوء الذي لا يعمل بعلمه فتنة ووبال على نفسه وغيره، ومَثَله مثل صخرة وقفت في فم النهر؛ لا هي تشرب ولا هي تدع الماء يخلص إلى الزرع.. ارحمونا يا علماء السوء!!
إن الفقيه إذا غوى وأطاعه قوم *** غووا معه فضاع وضيَّعا
مثل السفينة إن هوت في لجة *** تغرقْ ويغرقُ كل من فيها معا
12- رسالة تحذير:
قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما يُرْفع من الناس الخشوع» [رواه الطبراني]
وهو إشارة إلى أن علم القلوب سيضمحل وسط طغيان علوم الدنيا، وأن أسراره ستضيع وبركاته ستذهب وسط الزحام، ومخالفة السر العلن، وعندها فساد كل شيء: تذبل القلوب لموت الأرواح فيها، وتقرأ الألسنة العربية القرآن وكأنها أعجمية، فلا فهم ولا تدبر ولا امتثال، وتنشغل الأمة -إن انشغلت- بمظهر العبادة دون جوهرها، وتهتم بأركانها دون مقاصدها، ويكثر البهرج الزائف وإن اتَّشح بوشاح القرآن. قال صلى الله عليه وسلم: «أكثر منافقي أمتي قرَّاؤها» [صححه الألباني]
وإذا فشا النفاق في أمة رأيت العجب العجاب، ليس في زماننا فحسب، بل وفي زمان من هم أزكى منا وأطهر، وليس بين العوام بل بين حفظة كتاب الله.
قال النووي: "ما أخاف على ذِمِّي إلا القُرَّاء والعلماء"، فاستنكرو منه ذلك، فقال: "ما أنا قلته وإنما قاله إبراهيم النخعي"، وقال عطاء: "احذروا القُرَّاء واحذروني معهم، فلو خالفت أودَّهم لي في رمانة؛ أقول إنها حلوة ويقول إنها حامضة ما أمنته أن يسعى بدمي إلى سلطان جائر".
وقال الفضيل لابنه: "اشتروا دارا بعيدة عن القُرَّاء؛ ما لي والقوم! إن ظهرت مني زلة قتلوني، وإن ظهرت علي حسنة حسدوني". (فيض القدير:2/80)
وهل هذا إلا لفساد الباطن وخبث السريرة؛ مع أن الله قد يهدي بقراءتهم الألوف من الناس، لكن ذلك لا يُغني عنهم من عذاب الله من شيء إن هم فسدت قلوبهم، وهذا ما سبق وحذَّرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فروى عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كلُّ منافق عليم اللسان» [رواه أحمد]
قال المناوي شارحاً:
"أي كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكل بها ذا هيبة وأبهة يتعزز ويتعاظم بها؛ يدعو الناس إلى الله ويفرُّ هو منه، ويستقبح عيب غيره ويفعل ما هو أقبح منه، ويظهر للناس التنسك والتعبد ويسارر ربه بالعظائم، إذا خلا به ذئب من الذئاب لكن عليه ثياب، فهذا هو الذي حذَّر منه الشارع صلى الله عليه وسلم هنا حذرا من أن يخطِفك بحلاوة لسانه، ويُحرِقك بنار عصيانه، ويقتلك بنتن باطنه وجَنانه" (فيض القدير: 2/419).
وسبب تحديث عمر بهذا الحديث أن الأحنف بن قيس سيد أهل البصرة كان فاضلا فصيحا مفوهَّها، فقدم على عمر فحبسه عنده سنة يأتيه كل يوم وليلة، فلا يأتيه عنه إلا ما يجب، ثم دعاه فقال: تدري لم حبستك عني؟! قال: لا. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثنا فذكر احديث، ثم قال: "خشيت أن تكون منافقا عليم اللسان، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذَّرنا منه، وأرجو أن تكون مؤمنا، فانحدر إلى مصرك" (فيض القدير: 2/221)
وهو ما يؤدي حتما إلى عدم تأثير الموعظة في القلوب لأن الرامي غير ماهر والسهم غير نافذ، مما دعا الحسن البصري رحمه الله إلى أن يتهم قلبه أو قلب الواعظ الذي وعظه حين لم تؤثِّر فيه موعظته قائلا له: "يا هذا! إن بقلبك لشَرَّا أو بقلبي"
13- أعمال القلوب أولى واغلى:
لعمل القلب القلب المكانة العظمى والمنزلة الأسمى في دولة الإيمان، لذا ذكر العلماء أن عمل القلب أهم من عمل الجوارح، قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
"ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُميِّز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودتية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت" (بدائع الفوائد:3/710)
وقال في موضع آخر:
"فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح" (بدائع الفوائد:3/710)
وقال أيضاً:
"فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة عليها" (بدائع الفوائد:3/705)
ولهذا يسبق أصحاب القلوب أصحاب الجوارح بملاحل وعلى الدوام،"فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتُطيِّب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدَّم عليه بعمله" (الفوائد:1/142)
14- عليه مدار الأجر وتفاوته:
فتتفاوت الأجور في كل عمل حسب محتوى القلوب، ففي الصلاة: قد يصلي الرجلان في صف واحد وبين ثوابهما كما بين السماء والأرض، وقد ينفق الأخوان مبلغا واحدا فينال أحدهما أجرا واحدا بينما الآخر ينال سبعمائة أجر أو أكثر، وقد يدرك قلبان ليلة القدر فيتضاعف أجر أحدهما عن الآخر أضعافا مضاعفة، بل حتى في الجهاد؛ ففي غزوة مؤتة لما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم أخذ سيفه وتثدم فقاتل حتى قُتِل رضي الله عنه. قال صلى الله عليه وسلم: «لقد رُفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: عمَّ هذا؟! فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ثم مضى» (قفه السيرة: 368)
لحظة واحدة من عمل القلب كانت سببا في تأخر ابن رواحة، ولمحة من طرْف العين أنزلته دون صاحبيه، ليحوز شهادة دون شهادة، وفوزا دون فوز،وهذا كله من عمل لحظة!! لكنها لحظة قلبية، لكن كيف بمن غرق قلبه الأيام والأعوام في غفلات متتابعات وسكرات متلازمات؟! تُرى كم يتأخر في الجنة؛ هذا إن دخلها!!
لذا أدرك ابن عطاء السكندري قيمة عمل القلب فانطلق يرسي قاعدة وزن الأعمال، وهي قاعدة سارية المفعول في زمانه وغير زمانه:
"ما قل عمل برز من قلب زاهد، ولا كثر عمل برز من قلب راغب" (شروح الحكم العطائية:ص184)
وأكَّدها يحيى بن معاذ في قوله الأخاذ:
"مفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطع بالقلوب" (حلية الأولياء: 10/52)
بل وشهد لأعمال القلوب من قبل هؤلاء جميعا الصحابي المُعلَّم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قال مخاطبا جموع التابعين المجدين في عبادات الجوارح: "أنتم أطول صلاة، وأكثر اجتهادا من أصحاب رسول الله، وهم كانوا أفضل منكم" قيل له: بأي شيء؟ قال: "إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم" (صفة الصفوة:1/420-421)
15- رفعة الدنيا وشرف الآخرة:
واسمع كيف رفعت القلوب قوما كانوا خدما وعبيدا، وسمت بذكرهم فوق السحاب، ووالله لو كانت قلوبهم غير نقية أو خالصة لطمس الله ذكرهم وبعثر علمهم ومحى سيرتهم، أو قرنها بكل خبيث وسوء، ولكنه القلب الحي يظل ينبض بعد موت صاحبه يتغنى بالذكر الجميل والسيرة العطرة، بذا نطق الأمير شوقي فقال:
الناس صنفان: موتى في حياتهم *** وآخرون ببطن الأرض أحياء
قال ابن أبي ليلى:
"قال لي عيسى بن موسى وكان جائرا شديد العصبية للعرب: من كان فقيه البصرة؟ قلت الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين. قال:فما هما؟ قلت: موليان.
قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار. قال: فما هما؟ قلت: موالي.
فتغيَّر لونه، ثم قال: فمن كان أفقه أهل قباء؟ قلت: ربيعة الرأي، وابن أبي الزناد، قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي.
فاربدَّ وجهه ثم قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاووس، وابنه, وهمام بن منبه. قال: فما هؤلاء؟ قلت: من الموالي.
فانتفخت أوداجه فانتصب قاعدا، ثم قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى.
فازداد تغيظا وحنقا، ثم قال: فمن كان فقيه الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فما كان؟ قلت: مولى.
قال: فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ قلت: فوالله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عُيينة، وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر، فقلت: إبراهيم، والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر! وسكن جأشه" (العقد الفريد:3/328-239)
لله درُّهم.. عبيدٌ أشرف من سادة، وهمم تناطح الجبال؛ ونجوم ساطعة وإن رآهم الجاهل في أدنى سلم المجتمع أو في القاع، وملوك آخرة ولو لم يجدوا ما يسد الرمق، والسر من وراء هذا كله القلب، وما يضرهم أن يكونوا من الحطام الفاني والعز الراحل فارغي اليد إذا كانوا من كنوز الشفاء ونوافع الدواء ممتلئي القلب؟!
وصدق إقبال وهو يجزم:
بامتثال الأمر يعلو من رَسَب *** وهوى الطاغي ولو كان اللهب (ديوان الأسرار والرموز:ص38)
16- العلم الحقيقي:
وهو علم القلوب، وقد فهم سلفنا الصالح أهمية هذا علم القلوب على سائر اللوم، فقال عنه أبو حامد الغزالي: "وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة" (الإحياء:1/21)، وقال عمرو بن قيس الملائي: "حديث أُرقِّق به قلبي، وأتبلَّغ به إلى ربي، أحب إليَّ من خمسين قضية من قضايا شُرَيح" (حلية الأولياء: 5/102-103). بل لما لما قيل للإمام أحمد: من نسأل بعدك؟! قال عبد الوهاب الوراق. قيل له: إنه ليس له اتساع في العلم قال: إنه رجل صالح مثله يُوفَّق لإصابة الحق، وسُئل كذلك عن معروف الكرخي؛ فقال: كان معه أصل العلم: خشية الله. (جامع العلوم والحكم: 1/95)
واستُفتي الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له: إن فقهاءنا لا يقولون ذلك، فقال: "وهل رأيت فقيها قط؟! الفقيه: القائم ليله الصائم نهاره الزاهد في الدنيا" (إحياء علوم الدين:3/389)
وعن ليث قال: "كنت أسأل الشعبي فيُعرِض عني ويجبهني بالمسألة، فقلت: يا معشر العلماء! يا معشر الفقهاء! تروون عنا أحاديثكم وتجبهوننا بالمسألة، فقال الشعبي: يا معشر العلماء! يا معشر الفقهاء! لسنا بفقهاء ولا علماء، ولكنا قوم قد سمعنا حديثا، فنحن نحدثكم بما سمعنا، إنما الفقيه من ورع عن محارم الله، والعالم من خاف الله" (الحلية:4/311).
وليس الوصول إلى الله والدار الآخرة بكثرة العلم والرواية بل بثمرة العلم والهداية، وما قيمة علم لا يدفع صاحبه إلى العمل؟! وهل هو إلا حجة عليه ودليل إدانته وعلامة عدم اكتراثه بربه؟! لذا كان نهج السلف تجهيز تربة القلب وإعدادها جيدا قبل أن يبذروا فيها أي بذرة علم. قال سفيان الثوري: "كان الرجل لا يطلب الحديث حتى يتعبَّد قبل ذلك عشرين سنة" (حلية الأولياء: 6/361).
يا من تباعد عن مكارم خلقه *** ليس التفاخر بالعلوم الزاخرة
من لم يهذِّب علمُه أخلاقَه *** لم ينتفع بعلومه في الآخرة
لن ينتفع وسيخسر ويُخبر عن نفسه عند انكشاف غطائه وطلب الرسل له لقدومه على ربه فقال وصدق
إن كان منزلتي في الحب عندكم *** ما قد لقيت فقد ضيَّعتُ أيامي
أمنية ظفرَت نفسي بها زمنا *** واليوم أحسبها أضغاث أحلام
المحتالون
وإذا مرِض قلب العالم استخدم علمه في حِيَل يظن بها أن يتخلص من حكم الشرع وعاقبة البغي وكأن الله غير مطلع عليه، وقد انتشرت هذه الحيل عندما وهن الإيمان في الصدور واستثقل الناس أحكام الشرع؛ حتى أفرد ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان فصولا عن الحيل وأقسامها، واسمع إلى واحدة من هذه الحيل يرويها لك أبو حامد الغزالي:
"وحُكي أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول، ويستوهب مالها إسقاطا للزكاة، فحُكِي ذلك لأبي حنيفة رحمه الله؛ فقال: ذلك من فقهه، وصدق فإن ذلك من فقه الدنيا، ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل جناية، ومثل هذا هو العلم الضار" (إحياء علوم الدين:1/18)
لذا كان عليك وأنت تدرس أي علم من علوم الشرع اليوم أن تقرأه بروح جديدة، وقلب كأنه وُلِد اليوم ولم يتلطخ بخطيئة بعد، وخذ مثلا على ذلك: عِلم السيرة الذي حثَّك الأستاذ البهي الخولي على قراءته بهذه الطريقة الجديدة باستخدام قلبك قبل عينيك، وبروحك وعاطفتك مع عقلك، وأرشدك إلى الطرح الحي فقال:
"أن تُكثِر مصاحبة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته المطهرة مصاحبة وجدانية عميقة، تجعلك في مجلسه عليه السلام إذا جلس، وفي ركابه إذا ركب، وفي معيته إذا سار، وتُسمعك قوارع وعظه، وتُسِّرب إلى قلبك رقة مناجاته إذا ناجى ربه في جوف الليل، أو في خلوات النهار، وتصل عواطفك بعواطفه صلوات الله عليه، حتى تكاد تشعر بخلجات قلبه العظيم إذا غضب، وبشاشته وسماحته إذا تسهل لشيء وتهلل، وتسلكك في صفوف المؤمنين به، فأنت معهم حين يسامون العذاب، تألم كما يألمون، وتهاجر كما يهاجرون، تهاجر معهم بوجدانك وخيالك وعواطفك إلى الحبشة أو غيرها من بلاد الله، فإذا شُرِع له الجهاد في المدينة، فأنت تحت لوائه المُظفَّر، تشهده ممتطيا صهوة جواده، وقد لبس لأمة الحرب، وتقَّلد السيف، وأخذ برمحه، فهو فارس الميدان، وقائد الفرسان، تزهر عيناه الشريفتان من تحت مغفره، فما يصعد شرفاً ولا يهبط وادياً، ولا ينال من عدو نيلا إلا وأنت معه عليه السلام، تكاد تضرِب إذا ضرب، وتُقدِم إذا أمر، وتفديه بما تملك، وتحوطه بكل ما في سويداء قلبك من حب وعاطفة". (تذكرة الدعاة: ص204)
17- شرط الطبيب الناجح:
قال ابن القيم في كتابه الطب النبوي عندما تكلم عن الطبيب الحاذق وذكر أنه يجب أن يراعى في علاجه عشرين أمراً كان منها:
"أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان، فإن انفعال البدن وطبيعته عن القلب والنفس أمر مشهود، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجها كان هو الطبيب الكامل، والذي لا خبرة له بذلك وإن كان حاذقاً في علاج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب، وكل طبيب لا يداوي العليل بتفقد قلبه وصلاحه، وتقوية أرواحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والإحسان والإقبال على الله والدار الآخرة فليس بطبيب بل مُتَطبِّب قاصر" (الطب النبوي:139-140)
إن غاية ما وصل إليه طب الدنيا أنه يصف الدواء، لكنه لا يضمن لك حتمية الشفاء، أما دواء الآخرة فالله هو الذي ضمن لمن تناوله تمام الشفاء، ولو علم الناس ما للطاقة الروحية من فوائد علاجية على الجسم والنفس لتخلوا عن استعمال كمية وافرة من الأدوية التي في معظمها لا تعالج إلا الأعراض، ولا تنفذ إلى الأسباب، وقد كان سلفنا الصالح أدرى ما يكونون بذلك، فأرشدوا أطباء الدنيا إلى ما غاب عنهم من طب الآخرة، وعلَّموهم أن راحة قلب للمريض وسعادته لها أعظم الأثر في محاصرة داء الجسد ودفع بلائه.
قال ابن القِّيم وهو يصف حال شيخه ابن تيمية:
"وحدَّثني شيخنا قال: ابتدأني مرض، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك؛ وأنا أحاكمك إلى علمك، أليست النفس إذا فرحت وسُرَّت قويت الطبيعة فدفعت المرض، فقال: بلى، فقلت له:فإن النفس تُسَرُّ بالعلم، فتقوى به الطبيعة، فأجد راحة، فقال: هذا خارج عن علاجنا" (روضة المحبين:1/70)
18- قلب يقلب المعركة:
قد يدخل قلبٌ المعركة فيقلب الهزيمة الساحقة نصرا مبينا خاصة إن كان من نوع قلب أبي طلحة رضي الله عنه الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم: «صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل» [صححه الألباني].
صوته فحسب بألف فكيف بسيفه؟! وهل بلغ هذا إلا بقلبه وما يحوي قلبه؟ وهل هذا إلا نتاج شجاعته وإقدامه وثباته وإيمانه وهي كلها أعمال قلوب؟! رحمة الله عليه وكأنه يشرح بفعله معنى قول ابن الجوزي: "الشجاع يلبس القلب على الدرع، والجبان يلبس الدرع على القلب" (المدهش:ص465)
ليدخل بذلك في زمرة من عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تُهزَم اثنا عشر ألفا من قلة» [رواه الترمذي وأبو داود والحاكم].
ومعنى آخِر مقطعٍ في الحديث: «ولا تُهزَم اثنا عشر ألفا من قلة»: أن هزيمة أي جيش إن بلغ هذا العدد لا تكون بسبب قلته لكن بسبب قلوب جنوده، فهل علمتم الآن سبب غثائية الأمة وكثرة زبدها وضعف قوتها ووهن عزيمتها وتبوئها ذيل الأمم؟
وفي المقابل: قد ينقلب قلب نصر الأمة هزيمة ماحقة، فإن مرضا واحدا من أمراض القلب وهو الوهن كان كافيا لتسلط حفنة من اليهود لا تجاوز ملايينها عدد أصابع اليدين على مقدَّرات أمة فاق عددها الألف ومائتي مليون مسلم، إن قلوبنا هي سلاحنا الحقيقي في معركتنا الفاصلة مع العدو، لذا كانت ولا زالت هي هدف العدو الأساسي ومرمى سهامه الوحيد، يبث فيها السم ليتفشى فيها الداء؛ فتبقى دوما طريحة فراش الشهوات والأمنيات، وتترك بوابة الأمة مفتوحة على مصراعيها لغارات العدو بعد أن رفعت رايتها البيضاء مستسلمة.
ويعضِّد هذا قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «صلاح هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل» [رواه أحمد والطبراني وحسنه الألباني]، وهي كما ترى ليست أعمال جوارح بل أعمال قلوب، فاعلم قدر قلبك وأعطه ما يستحق واعتن به يا غافلا عن أثمن ما يملك!! نصر الأمة في قلب وهزيمتها من قلب، فأي القلبين قلبك؟!
19- مستودع الأخلاق والمشاعر:
إن قلب المرء هو الذي يتحكم في أخلاقه ويكظم انفعالاته ويضبط سلوكه ويهذِّب الشارد من طباعه، وهل تسكن أخلاق الأمانة والفاء والصبر والحلم والرحمة والعفو والصدق والعدل بيتا غير القلب؟! ولذا قال الأحنف بن قيس:
ولربما ضحك الحليم من الأذي *** وفؤاده من حرِّه يتأوه
ولربما شَكِل الحليم لسانه *** حذر الجواب وإنه لمُفوَّه
(العقد الفريد: 2/141)
فحُسن الخلق من حياة القلب، وسوء الخلق من مرض القلب أو موته، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، ولذا فقد كان قلبه أعمر القلوب بالحياة حتى أيقظ قلوب كل من كان حوله في حياته وبعد رحيله.
قال أبو حامد الغزالي:
"القلب خزانة كل جوهر للعبد نفيس، وكل معنى خطير، أولها: العقل، وأجلُّها: معرفة الله تعالى التي هي سبب سعادة الدارين، ثم البصائر التي بها التقدم والوجاهة عند الله تعالى، ثم النية الخالصة في الطاعات التي بها يتعلَّق ثواب الأبد، ثم أنواع العلوم والحكم التي هي شرف العبد، وسائر الأخلاق الشريفة الخصال الحميدة التي بها يحصل تفاضل الرجال، وحُقَّ لهذه الخزانة أن تُحفظ وتصان عن الأدناس والآفات، وتُحرس وتُحرز من السُرَّاق والقُطَّاع، وتُكرم وتُجَلُّ بضروب الكرامات، لئلا يلحق تلك الجواهر العزيزة دنس، ولا يظفر بها –والعياذ بالله- عدو" (منهاج العابدين: ص94).
إن قلبا عزيزاً يمتلئ بالحزن سوف يرسل الأوامر إلى الوجه ليبتسم حتى لا يعلم الناس ما به من أذى، فإن علموا ما به ظل متألما بذُلِّ الشكوى محترقا بنار شفقة الناس عليه.
وهكذا كان قلب العزيز النبيل أسامة بن منقذ حين قال:
نافقت قلبي فوجهي ضاحكٌ جذِل *** طلق وقلبي كئيب مُكْمد باكِ
وراحة القلب في الشكوى ولذتِها *** لو أمكنت لا تساوي ذلة الشاكي
إن القلب والباطن هو من يضبط ويتحكم في الجوارح والظاهر ليظهر أمام الناس ما يسمح به القلب فحسب، ويأذن به ويرضاه، واسمع مرة ثانية إلى قول أسامة بن منقذ وتمثيله الجميل:
انظر إلى حسن صبر الشمع يُظهِرُ *** للرائين نورا وفيه النار تستعِر
كذا الكريم تراه تراه ضاحكا *** جذِلا وقلبه بدخيل الغم منفطر
20- بين الموت والحياة:
قال تعالى:{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].
وهذا مثل ضربه الله للذي هداه بعد الضلالة وشبَّهه بأنه كان كالميت الذي أحياه الله، وجعل له نورا يمشي به في الناس مستضيئا به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين أبيضهم وأسودهم وجميلهم وقبيحهم ومن يعرف منهم ومن لا يعرف ويسير فلا يتعثَّر أو ينكب على وجهه، ويعرف طريقه بل يساعد غيره على معرفة طريقه: يرشد العميان ويهدي الحيران، أهذا مثله مثل من بقي على الضلالة المتخبط في الظلمة لا ينفك منها ولا يتخلص؟!
ولكي تفهمه الفارق جيدا بين الفريقين وترى التناقض الكبير والبون الشاسع بين طريقين، فاسمع ما قاله زيد بن أسلم والإمام السُّدِّي في تفسير هذه الآية: "{فَأَحْيَيْنَاهُ} : عمر رضي الله عنه، {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}: أبو جهل لعنه الله". (القرطبي:7/70)
إنه الفارق بين السماء والأرض، لكن الصحيح أنها عامة في كل مسلم وكافر، أو ضال ومهتدي، ووصف الموت هذا أحد عشرة أوصاف وصف الله بها قلوب الكافرين في القرآن. قال الإمام القرطبي: "وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت والقساوة والانصراف والحمية والإنكار...
فقال في الإنكار: {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [النحل:22]، وقال في الحمية: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح:26]، وقال في الانصراف: {ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} [التوبة:127]، وقال في القساوة: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]، وقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74]، وقال في الموت: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]، وقال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ} [الأنعام:36]، وقال في الرين: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، وقال في المرض: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [البقرة:10]، وقال في الضيق: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125]، وقال في الطبع: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة:87]، وقال: {بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155]، وقال في الختم: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} [البقرة:7]. (القرطبي: 1/232)
وفي مقابل وصف: ميت؛ أطلق الله على كل من قُتِل جهاداً في سبيله لفظ: حي، بل حرَّم علينا أن نطلق عليهم لقب أوات، وما ذلك إلا لحياة قلبه، فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]
فنهانا سبحانه أن نطلق على الشهيد كلمة: ميت، فهو حي في حياته وبعد رحيله، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن طلحة بن عبيد الله وهو حي: «طلحة ممن قضى نحبه» [صححه الألباني].
فالحي حي في حياته وبعد مماته، وميت القلب ميت في حياته وبعد موته، وحياة قلب الشهيد توحي بها معنى كلمة شهيد والتي تعني أنه شهد على الغيب حتى صار عنده شهادة، ولآنه رأى بقلبه ما لا يراه الناس إلا بعد موتهم؛ فأقدم على التضحية بأغلى ما يملك؛ كوفئ باستمرار إطلاق صفة الحياة عليه حتى بعد الموت.
10- موضع الانقلاب:
القلب هو أرق أعضاء الجسم وأسرعها تأثرا بما يحيط به ويغشاه، ومن رقته أن تؤثر فيه أدنى خاطرة وأقل هاجس، وأثر القليل عليه كثير، فالآفات إليه أسرع، وهو إلى الانفلات أدنى، ومن الانقلاب أقرب، فإن قلب المرء وإن صفا زمنا، وثبت على الايمان فترة، واستلذ بحلاوته حينا، فإنه معرَّض للانتكاسة، وهذه هي طبيعة القلب ومنها اشتُقَّ اسمه، قال القرطبي وهو يشرح معنى كلمة القلب: "وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته، وقلبت الإناء: رددته على وجهه، ثم نُقِل هذا اللفظ فسُمِّي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان لسرعة الخواطر إليه ولترددها عليه كما قيل:
ما سُمِّي القلب إلا من تقلبه***فاحذر على القلب من قلب وتحول" (تفسير القرطبي:1/232)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة، تعلقت في أصل شجرة، يقلبها الريح ظهرا لبطن» [صححه الألباني], وإن القلب شديد التقلب سريع التحول، ويضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلا فيقول: «لقلب ابن آدم أسرع انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانا» [رواه أحمد والحاكم]
إن بقاء قلب المؤمن على الدرجة الرفيعة من الايمان التي يجدها بعد أعظم العبادات قدراً، وعقب أكثر المواسم خيرا وفضلا؛ أمر مستحيل؛ لشدة انشغال القلب بالدنيا وملذاتها، وما يعتريه فيها من أفراح وأتراح، بل وتعرّضها لغزوات الشيطان المتلاحقة، وتلاعب اليهود بالعورات، وعزفهم على وتر الأهواء، ومع ذلك أريد أن أطمئنك وأُخوِّفك في الوقت ذاته مادام تقليب القلوب بيد الله وحده.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرِّفه حيث يشاء»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك» [رواه مسلم]
أخي.. لقد صليت اليوم خمس صوات فأجبني صادقا: كم مرة دعوت بهذا الدعاء؟! مع أنك أحوج إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتن اليوم أعم وأطغى، والقلب أضعف وأوهن، فاحرص على ما بينك وبين الله، وصِل ما انقطع من حبالك معه حتى يثبِّتك على مرضاته اليوم ويهديك.
11- أطباؤه مرضى:
وطب القلوب من العلوم التي شحَّت في زماننا، ونتج عنه المرض الذي عمَّ وانتشر حتى أصاب كثيرا من علمائنا وحاملي دوائنا؛ فحفظت أذهانهم الشروح والمتون، ونسيت جوارحهم الهدى والمنون، وقالت ألسنتهم أنهم عالمون ونطقت أفعالهم أنهم جاهلون.
وأكثر علماء زماننا نوعان:
نوع منكب على حطام الدنيا لاهث ورائها، لا يمل جمعها، ويتقلب شهره ودهره في ملذاتها، وقد أخذت دنياه بمجامع قلبه، ولزمه خوف الفقر وحب التكاثر؛ وأكثر هؤلاء دُفِع إلى ذلك دفعا وأُريد له أن ينشغل بالسعي وراء لقمة العيش والكدِّ من أجل الرزق وأُعطوا في مقابل ذلك الكفاف؛ ليس غير الكفاف، ليظلوا دوما غارقين في الإعصار، دائرين في الرحى، لا يبلغون ما يأملون، ولا يتركون السعي إلى ما يطمحون، وبذلك نسوا أسمى مهامهم وأشرفها وهي وراثة الأنبياء والقيام بوظيفة الرُّسل.
ونوع آخر اختصر الطريق على نفسه، ورضي بالحرام السهل، والشبهة المربحة، واتخذ الإيمان سلعة، يبيع بعضه أو كله، ويقبض الثمن توسعة وإكراما وإغداقا وأموالا، أهل تصنُّع ودهاء، وتزين للمخلوقين، وتملُّق للحكام، يلتقطون الرُّخص ويفتون بها، ديدنهم المداهنة، وطريقهم المنافقة، ولذا عمَّ البلاء وعزَّ الدواء، وقد سبق للعالم المجاهد عبد الله بن لمبارك أن رأى أحد إخوانه يسلك أول هذا الطريق فقام بواجبه في النصح على الفور، ومدَّ له يد العون، وما أطيب سيرة رجل كابن المبارك كأريج الزهور تنقلها الريح من سهل إلى سهل ومن عصر إلى عصر متجاوزة حدود الزمان والمكان، لتنقل لنا أنه لما قيل له: إن اسماعيل بن علية قد ولي الصدقات كتب إليه ابن المبارك أبياتا من الشعر تصلح لكل زمان سرى فيه هذا الداء فقال:
يا جاعل العلم له بازيا*** يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها*** بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعد ما *** كنت دواءً للمجانين
أين رواياتك في سردها*** عن ابن عون وابن سيرين
أين رواياتك والقول في *** لزوم أبواب السلاطين
إن قلت أُكرهتُ فماذا كذا *** زلَّ حمار العلم في الطين
فلما قرأ الكتاب بكى واستعفى. (صفة الصفوة:4/140)
وإن كان لموت القلب علامات تختلف من شخص إلى آخر ومن مهنة إلى أخرى؛ فإن أبرز علامات موت قلب العلماء وأشهرها هي ما عرفناه من مالك بن دينار الذي قال:
"سألت الحسن: ما عقوبة العالم؟ قال: موت القلب. قلت: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة" (شعب الإيمان:2/296)
وسمَّاهم ربيعة الرأي بالسفلة وسفلة السفلة، فقد روى الإمام الجليل مالك بن أنس: "قال لي استاذي ربيعة الرأي: يا مالك! من السفلة؟ قلت: منأكل بدينه، فقال: فمن سفلة السفلة؟ قال: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه" (شعب الإيمان:5/357)
أظهروا لله دينا *** وعلى الدينار داروا
وله صاموا وصلو *** وله حجوا وزاروا
لو بدا فوق الثريا *** ولهم ريش لطاروا (العقد الفريد:3/169-170)
عالم السوء الذي لا يعمل بعلمه فتنة ووبال على نفسه وغيره، ومَثَله مثل صخرة وقفت في فم النهر؛ لا هي تشرب ولا هي تدع الماء يخلص إلى الزرع.. ارحمونا يا علماء السوء!!
إن الفقيه إذا غوى وأطاعه قوم *** غووا معه فضاع وضيَّعا
مثل السفينة إن هوت في لجة *** تغرقْ ويغرقُ كل من فيها معا
12- رسالة تحذير:
قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما يُرْفع من الناس الخشوع» [رواه الطبراني]
وهو إشارة إلى أن علم القلوب سيضمحل وسط طغيان علوم الدنيا، وأن أسراره ستضيع وبركاته ستذهب وسط الزحام، ومخالفة السر العلن، وعندها فساد كل شيء: تذبل القلوب لموت الأرواح فيها، وتقرأ الألسنة العربية القرآن وكأنها أعجمية، فلا فهم ولا تدبر ولا امتثال، وتنشغل الأمة -إن انشغلت- بمظهر العبادة دون جوهرها، وتهتم بأركانها دون مقاصدها، ويكثر البهرج الزائف وإن اتَّشح بوشاح القرآن. قال صلى الله عليه وسلم: «أكثر منافقي أمتي قرَّاؤها» [صححه الألباني]
وإذا فشا النفاق في أمة رأيت العجب العجاب، ليس في زماننا فحسب، بل وفي زمان من هم أزكى منا وأطهر، وليس بين العوام بل بين حفظة كتاب الله.
قال النووي: "ما أخاف على ذِمِّي إلا القُرَّاء والعلماء"، فاستنكرو منه ذلك، فقال: "ما أنا قلته وإنما قاله إبراهيم النخعي"، وقال عطاء: "احذروا القُرَّاء واحذروني معهم، فلو خالفت أودَّهم لي في رمانة؛ أقول إنها حلوة ويقول إنها حامضة ما أمنته أن يسعى بدمي إلى سلطان جائر".
وقال الفضيل لابنه: "اشتروا دارا بعيدة عن القُرَّاء؛ ما لي والقوم! إن ظهرت مني زلة قتلوني، وإن ظهرت علي حسنة حسدوني". (فيض القدير:2/80)
وهل هذا إلا لفساد الباطن وخبث السريرة؛ مع أن الله قد يهدي بقراءتهم الألوف من الناس، لكن ذلك لا يُغني عنهم من عذاب الله من شيء إن هم فسدت قلوبهم، وهذا ما سبق وحذَّرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فروى عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كلُّ منافق عليم اللسان» [رواه أحمد]
قال المناوي شارحاً:
"أي كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكل بها ذا هيبة وأبهة يتعزز ويتعاظم بها؛ يدعو الناس إلى الله ويفرُّ هو منه، ويستقبح عيب غيره ويفعل ما هو أقبح منه، ويظهر للناس التنسك والتعبد ويسارر ربه بالعظائم، إذا خلا به ذئب من الذئاب لكن عليه ثياب، فهذا هو الذي حذَّر منه الشارع صلى الله عليه وسلم هنا حذرا من أن يخطِفك بحلاوة لسانه، ويُحرِقك بنار عصيانه، ويقتلك بنتن باطنه وجَنانه" (فيض القدير: 2/419).
وسبب تحديث عمر بهذا الحديث أن الأحنف بن قيس سيد أهل البصرة كان فاضلا فصيحا مفوهَّها، فقدم على عمر فحبسه عنده سنة يأتيه كل يوم وليلة، فلا يأتيه عنه إلا ما يجب، ثم دعاه فقال: تدري لم حبستك عني؟! قال: لا. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثنا فذكر احديث، ثم قال: "خشيت أن تكون منافقا عليم اللسان، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذَّرنا منه، وأرجو أن تكون مؤمنا، فانحدر إلى مصرك" (فيض القدير: 2/221)
وهو ما يؤدي حتما إلى عدم تأثير الموعظة في القلوب لأن الرامي غير ماهر والسهم غير نافذ، مما دعا الحسن البصري رحمه الله إلى أن يتهم قلبه أو قلب الواعظ الذي وعظه حين لم تؤثِّر فيه موعظته قائلا له: "يا هذا! إن بقلبك لشَرَّا أو بقلبي"
13- أعمال القلوب أولى واغلى:
لعمل القلب القلب المكانة العظمى والمنزلة الأسمى في دولة الإيمان، لذا ذكر العلماء أن عمل القلب أهم من عمل الجوارح، قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
"ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُميِّز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودتية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت" (بدائع الفوائد:3/710)
وقال في موضع آخر:
"فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح" (بدائع الفوائد:3/710)
وقال أيضاً:
"فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة عليها" (بدائع الفوائد:3/705)
ولهذا يسبق أصحاب القلوب أصحاب الجوارح بملاحل وعلى الدوام،"فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتُطيِّب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدَّم عليه بعمله" (الفوائد:1/142)
14- عليه مدار الأجر وتفاوته:
فتتفاوت الأجور في كل عمل حسب محتوى القلوب، ففي الصلاة: قد يصلي الرجلان في صف واحد وبين ثوابهما كما بين السماء والأرض، وقد ينفق الأخوان مبلغا واحدا فينال أحدهما أجرا واحدا بينما الآخر ينال سبعمائة أجر أو أكثر، وقد يدرك قلبان ليلة القدر فيتضاعف أجر أحدهما عن الآخر أضعافا مضاعفة، بل حتى في الجهاد؛ ففي غزوة مؤتة لما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم أخذ سيفه وتثدم فقاتل حتى قُتِل رضي الله عنه. قال صلى الله عليه وسلم: «لقد رُفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: عمَّ هذا؟! فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ثم مضى» (قفه السيرة: 368)
لحظة واحدة من عمل القلب كانت سببا في تأخر ابن رواحة، ولمحة من طرْف العين أنزلته دون صاحبيه، ليحوز شهادة دون شهادة، وفوزا دون فوز،وهذا كله من عمل لحظة!! لكنها لحظة قلبية، لكن كيف بمن غرق قلبه الأيام والأعوام في غفلات متتابعات وسكرات متلازمات؟! تُرى كم يتأخر في الجنة؛ هذا إن دخلها!!
لذا أدرك ابن عطاء السكندري قيمة عمل القلب فانطلق يرسي قاعدة وزن الأعمال، وهي قاعدة سارية المفعول في زمانه وغير زمانه:
"ما قل عمل برز من قلب زاهد، ولا كثر عمل برز من قلب راغب" (شروح الحكم العطائية:ص184)
وأكَّدها يحيى بن معاذ في قوله الأخاذ:
"مفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطع بالقلوب" (حلية الأولياء: 10/52)
بل وشهد لأعمال القلوب من قبل هؤلاء جميعا الصحابي المُعلَّم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قال مخاطبا جموع التابعين المجدين في عبادات الجوارح: "أنتم أطول صلاة، وأكثر اجتهادا من أصحاب رسول الله، وهم كانوا أفضل منكم" قيل له: بأي شيء؟ قال: "إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم" (صفة الصفوة:1/420-421)
15- رفعة الدنيا وشرف الآخرة:
واسمع كيف رفعت القلوب قوما كانوا خدما وعبيدا، وسمت بذكرهم فوق السحاب، ووالله لو كانت قلوبهم غير نقية أو خالصة لطمس الله ذكرهم وبعثر علمهم ومحى سيرتهم، أو قرنها بكل خبيث وسوء، ولكنه القلب الحي يظل ينبض بعد موت صاحبه يتغنى بالذكر الجميل والسيرة العطرة، بذا نطق الأمير شوقي فقال:
الناس صنفان: موتى في حياتهم *** وآخرون ببطن الأرض أحياء
قال ابن أبي ليلى:
"قال لي عيسى بن موسى وكان جائرا شديد العصبية للعرب: من كان فقيه البصرة؟ قلت الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين. قال:فما هما؟ قلت: موليان.
قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار. قال: فما هما؟ قلت: موالي.
فتغيَّر لونه، ثم قال: فمن كان أفقه أهل قباء؟ قلت: ربيعة الرأي، وابن أبي الزناد، قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي.
فاربدَّ وجهه ثم قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاووس، وابنه, وهمام بن منبه. قال: فما هؤلاء؟ قلت: من الموالي.
فانتفخت أوداجه فانتصب قاعدا، ثم قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى.
فازداد تغيظا وحنقا، ثم قال: فمن كان فقيه الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فما كان؟ قلت: مولى.
قال: فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ قلت: فوالله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عُيينة، وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر، فقلت: إبراهيم، والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر! وسكن جأشه" (العقد الفريد:3/328-239)
لله درُّهم.. عبيدٌ أشرف من سادة، وهمم تناطح الجبال؛ ونجوم ساطعة وإن رآهم الجاهل في أدنى سلم المجتمع أو في القاع، وملوك آخرة ولو لم يجدوا ما يسد الرمق، والسر من وراء هذا كله القلب، وما يضرهم أن يكونوا من الحطام الفاني والعز الراحل فارغي اليد إذا كانوا من كنوز الشفاء ونوافع الدواء ممتلئي القلب؟!
وصدق إقبال وهو يجزم:
بامتثال الأمر يعلو من رَسَب *** وهوى الطاغي ولو كان اللهب (ديوان الأسرار والرموز:ص38)
16- العلم الحقيقي:
وهو علم القلوب، وقد فهم سلفنا الصالح أهمية هذا علم القلوب على سائر اللوم، فقال عنه أبو حامد الغزالي: "وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة" (الإحياء:1/21)، وقال عمرو بن قيس الملائي: "حديث أُرقِّق به قلبي، وأتبلَّغ به إلى ربي، أحب إليَّ من خمسين قضية من قضايا شُرَيح" (حلية الأولياء: 5/102-103). بل لما لما قيل للإمام أحمد: من نسأل بعدك؟! قال عبد الوهاب الوراق. قيل له: إنه ليس له اتساع في العلم قال: إنه رجل صالح مثله يُوفَّق لإصابة الحق، وسُئل كذلك عن معروف الكرخي؛ فقال: كان معه أصل العلم: خشية الله. (جامع العلوم والحكم: 1/95)
واستُفتي الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له: إن فقهاءنا لا يقولون ذلك، فقال: "وهل رأيت فقيها قط؟! الفقيه: القائم ليله الصائم نهاره الزاهد في الدنيا" (إحياء علوم الدين:3/389)
وعن ليث قال: "كنت أسأل الشعبي فيُعرِض عني ويجبهني بالمسألة، فقلت: يا معشر العلماء! يا معشر الفقهاء! تروون عنا أحاديثكم وتجبهوننا بالمسألة، فقال الشعبي: يا معشر العلماء! يا معشر الفقهاء! لسنا بفقهاء ولا علماء، ولكنا قوم قد سمعنا حديثا، فنحن نحدثكم بما سمعنا، إنما الفقيه من ورع عن محارم الله، والعالم من خاف الله" (الحلية:4/311).
وليس الوصول إلى الله والدار الآخرة بكثرة العلم والرواية بل بثمرة العلم والهداية، وما قيمة علم لا يدفع صاحبه إلى العمل؟! وهل هو إلا حجة عليه ودليل إدانته وعلامة عدم اكتراثه بربه؟! لذا كان نهج السلف تجهيز تربة القلب وإعدادها جيدا قبل أن يبذروا فيها أي بذرة علم. قال سفيان الثوري: "كان الرجل لا يطلب الحديث حتى يتعبَّد قبل ذلك عشرين سنة" (حلية الأولياء: 6/361).
يا من تباعد عن مكارم خلقه *** ليس التفاخر بالعلوم الزاخرة
من لم يهذِّب علمُه أخلاقَه *** لم ينتفع بعلومه في الآخرة
لن ينتفع وسيخسر ويُخبر عن نفسه عند انكشاف غطائه وطلب الرسل له لقدومه على ربه فقال وصدق
إن كان منزلتي في الحب عندكم *** ما قد لقيت فقد ضيَّعتُ أيامي
أمنية ظفرَت نفسي بها زمنا *** واليوم أحسبها أضغاث أحلام
المحتالون
وإذا مرِض قلب العالم استخدم علمه في حِيَل يظن بها أن يتخلص من حكم الشرع وعاقبة البغي وكأن الله غير مطلع عليه، وقد انتشرت هذه الحيل عندما وهن الإيمان في الصدور واستثقل الناس أحكام الشرع؛ حتى أفرد ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان فصولا عن الحيل وأقسامها، واسمع إلى واحدة من هذه الحيل يرويها لك أبو حامد الغزالي:
"وحُكي أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول، ويستوهب مالها إسقاطا للزكاة، فحُكِي ذلك لأبي حنيفة رحمه الله؛ فقال: ذلك من فقهه، وصدق فإن ذلك من فقه الدنيا، ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل جناية، ومثل هذا هو العلم الضار" (إحياء علوم الدين:1/18)
لذا كان عليك وأنت تدرس أي علم من علوم الشرع اليوم أن تقرأه بروح جديدة، وقلب كأنه وُلِد اليوم ولم يتلطخ بخطيئة بعد، وخذ مثلا على ذلك: عِلم السيرة الذي حثَّك الأستاذ البهي الخولي على قراءته بهذه الطريقة الجديدة باستخدام قلبك قبل عينيك، وبروحك وعاطفتك مع عقلك، وأرشدك إلى الطرح الحي فقال:
"أن تُكثِر مصاحبة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته المطهرة مصاحبة وجدانية عميقة، تجعلك في مجلسه عليه السلام إذا جلس، وفي ركابه إذا ركب، وفي معيته إذا سار، وتُسمعك قوارع وعظه، وتُسِّرب إلى قلبك رقة مناجاته إذا ناجى ربه في جوف الليل، أو في خلوات النهار، وتصل عواطفك بعواطفه صلوات الله عليه، حتى تكاد تشعر بخلجات قلبه العظيم إذا غضب، وبشاشته وسماحته إذا تسهل لشيء وتهلل، وتسلكك في صفوف المؤمنين به، فأنت معهم حين يسامون العذاب، تألم كما يألمون، وتهاجر كما يهاجرون، تهاجر معهم بوجدانك وخيالك وعواطفك إلى الحبشة أو غيرها من بلاد الله، فإذا شُرِع له الجهاد في المدينة، فأنت تحت لوائه المُظفَّر، تشهده ممتطيا صهوة جواده، وقد لبس لأمة الحرب، وتقَّلد السيف، وأخذ برمحه، فهو فارس الميدان، وقائد الفرسان، تزهر عيناه الشريفتان من تحت مغفره، فما يصعد شرفاً ولا يهبط وادياً، ولا ينال من عدو نيلا إلا وأنت معه عليه السلام، تكاد تضرِب إذا ضرب، وتُقدِم إذا أمر، وتفديه بما تملك، وتحوطه بكل ما في سويداء قلبك من حب وعاطفة". (تذكرة الدعاة: ص204)
17- شرط الطبيب الناجح:
قال ابن القيم في كتابه الطب النبوي عندما تكلم عن الطبيب الحاذق وذكر أنه يجب أن يراعى في علاجه عشرين أمراً كان منها:
"أن يكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان، فإن انفعال البدن وطبيعته عن القلب والنفس أمر مشهود، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجها كان هو الطبيب الكامل، والذي لا خبرة له بذلك وإن كان حاذقاً في علاج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب، وكل طبيب لا يداوي العليل بتفقد قلبه وصلاحه، وتقوية أرواحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والإحسان والإقبال على الله والدار الآخرة فليس بطبيب بل مُتَطبِّب قاصر" (الطب النبوي:139-140)
إن غاية ما وصل إليه طب الدنيا أنه يصف الدواء، لكنه لا يضمن لك حتمية الشفاء، أما دواء الآخرة فالله هو الذي ضمن لمن تناوله تمام الشفاء، ولو علم الناس ما للطاقة الروحية من فوائد علاجية على الجسم والنفس لتخلوا عن استعمال كمية وافرة من الأدوية التي في معظمها لا تعالج إلا الأعراض، ولا تنفذ إلى الأسباب، وقد كان سلفنا الصالح أدرى ما يكونون بذلك، فأرشدوا أطباء الدنيا إلى ما غاب عنهم من طب الآخرة، وعلَّموهم أن راحة قلب للمريض وسعادته لها أعظم الأثر في محاصرة داء الجسد ودفع بلائه.
قال ابن القِّيم وهو يصف حال شيخه ابن تيمية:
"وحدَّثني شيخنا قال: ابتدأني مرض، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك؛ وأنا أحاكمك إلى علمك، أليست النفس إذا فرحت وسُرَّت قويت الطبيعة فدفعت المرض، فقال: بلى، فقلت له:فإن النفس تُسَرُّ بالعلم، فتقوى به الطبيعة، فأجد راحة، فقال: هذا خارج عن علاجنا" (روضة المحبين:1/70)
18- قلب يقلب المعركة:
قد يدخل قلبٌ المعركة فيقلب الهزيمة الساحقة نصرا مبينا خاصة إن كان من نوع قلب أبي طلحة رضي الله عنه الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم: «صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل» [صححه الألباني].
صوته فحسب بألف فكيف بسيفه؟! وهل بلغ هذا إلا بقلبه وما يحوي قلبه؟ وهل هذا إلا نتاج شجاعته وإقدامه وثباته وإيمانه وهي كلها أعمال قلوب؟! رحمة الله عليه وكأنه يشرح بفعله معنى قول ابن الجوزي: "الشجاع يلبس القلب على الدرع، والجبان يلبس الدرع على القلب" (المدهش:ص465)
ليدخل بذلك في زمرة من عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تُهزَم اثنا عشر ألفا من قلة» [رواه الترمذي وأبو داود والحاكم].
ومعنى آخِر مقطعٍ في الحديث: «ولا تُهزَم اثنا عشر ألفا من قلة»: أن هزيمة أي جيش إن بلغ هذا العدد لا تكون بسبب قلته لكن بسبب قلوب جنوده، فهل علمتم الآن سبب غثائية الأمة وكثرة زبدها وضعف قوتها ووهن عزيمتها وتبوئها ذيل الأمم؟
وفي المقابل: قد ينقلب قلب نصر الأمة هزيمة ماحقة، فإن مرضا واحدا من أمراض القلب وهو الوهن كان كافيا لتسلط حفنة من اليهود لا تجاوز ملايينها عدد أصابع اليدين على مقدَّرات أمة فاق عددها الألف ومائتي مليون مسلم، إن قلوبنا هي سلاحنا الحقيقي في معركتنا الفاصلة مع العدو، لذا كانت ولا زالت هي هدف العدو الأساسي ومرمى سهامه الوحيد، يبث فيها السم ليتفشى فيها الداء؛ فتبقى دوما طريحة فراش الشهوات والأمنيات، وتترك بوابة الأمة مفتوحة على مصراعيها لغارات العدو بعد أن رفعت رايتها البيضاء مستسلمة.
ويعضِّد هذا قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «صلاح هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل» [رواه أحمد والطبراني وحسنه الألباني]، وهي كما ترى ليست أعمال جوارح بل أعمال قلوب، فاعلم قدر قلبك وأعطه ما يستحق واعتن به يا غافلا عن أثمن ما يملك!! نصر الأمة في قلب وهزيمتها من قلب، فأي القلبين قلبك؟!
19- مستودع الأخلاق والمشاعر:
إن قلب المرء هو الذي يتحكم في أخلاقه ويكظم انفعالاته ويضبط سلوكه ويهذِّب الشارد من طباعه، وهل تسكن أخلاق الأمانة والفاء والصبر والحلم والرحمة والعفو والصدق والعدل بيتا غير القلب؟! ولذا قال الأحنف بن قيس:
ولربما ضحك الحليم من الأذي *** وفؤاده من حرِّه يتأوه
ولربما شَكِل الحليم لسانه *** حذر الجواب وإنه لمُفوَّه
(العقد الفريد: 2/141)
فحُسن الخلق من حياة القلب، وسوء الخلق من مرض القلب أو موته، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، ولذا فقد كان قلبه أعمر القلوب بالحياة حتى أيقظ قلوب كل من كان حوله في حياته وبعد رحيله.
قال أبو حامد الغزالي:
"القلب خزانة كل جوهر للعبد نفيس، وكل معنى خطير، أولها: العقل، وأجلُّها: معرفة الله تعالى التي هي سبب سعادة الدارين، ثم البصائر التي بها التقدم والوجاهة عند الله تعالى، ثم النية الخالصة في الطاعات التي بها يتعلَّق ثواب الأبد، ثم أنواع العلوم والحكم التي هي شرف العبد، وسائر الأخلاق الشريفة الخصال الحميدة التي بها يحصل تفاضل الرجال، وحُقَّ لهذه الخزانة أن تُحفظ وتصان عن الأدناس والآفات، وتُحرس وتُحرز من السُرَّاق والقُطَّاع، وتُكرم وتُجَلُّ بضروب الكرامات، لئلا يلحق تلك الجواهر العزيزة دنس، ولا يظفر بها –والعياذ بالله- عدو" (منهاج العابدين: ص94).
إن قلبا عزيزاً يمتلئ بالحزن سوف يرسل الأوامر إلى الوجه ليبتسم حتى لا يعلم الناس ما به من أذى، فإن علموا ما به ظل متألما بذُلِّ الشكوى محترقا بنار شفقة الناس عليه.
وهكذا كان قلب العزيز النبيل أسامة بن منقذ حين قال:
نافقت قلبي فوجهي ضاحكٌ جذِل *** طلق وقلبي كئيب مُكْمد باكِ
وراحة القلب في الشكوى ولذتِها *** لو أمكنت لا تساوي ذلة الشاكي
إن القلب والباطن هو من يضبط ويتحكم في الجوارح والظاهر ليظهر أمام الناس ما يسمح به القلب فحسب، ويأذن به ويرضاه، واسمع مرة ثانية إلى قول أسامة بن منقذ وتمثيله الجميل:
انظر إلى حسن صبر الشمع يُظهِرُ *** للرائين نورا وفيه النار تستعِر
كذا الكريم تراه تراه ضاحكا *** جذِلا وقلبه بدخيل الغم منفطر
20- بين الموت والحياة:
قال تعالى:{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].
وهذا مثل ضربه الله للذي هداه بعد الضلالة وشبَّهه بأنه كان كالميت الذي أحياه الله، وجعل له نورا يمشي به في الناس مستضيئا به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين أبيضهم وأسودهم وجميلهم وقبيحهم ومن يعرف منهم ومن لا يعرف ويسير فلا يتعثَّر أو ينكب على وجهه، ويعرف طريقه بل يساعد غيره على معرفة طريقه: يرشد العميان ويهدي الحيران، أهذا مثله مثل من بقي على الضلالة المتخبط في الظلمة لا ينفك منها ولا يتخلص؟!
ولكي تفهمه الفارق جيدا بين الفريقين وترى التناقض الكبير والبون الشاسع بين طريقين، فاسمع ما قاله زيد بن أسلم والإمام السُّدِّي في تفسير هذه الآية: "{فَأَحْيَيْنَاهُ} : عمر رضي الله عنه، {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}: أبو جهل لعنه الله". (القرطبي:7/70)
إنه الفارق بين السماء والأرض، لكن الصحيح أنها عامة في كل مسلم وكافر، أو ضال ومهتدي، ووصف الموت هذا أحد عشرة أوصاف وصف الله بها قلوب الكافرين في القرآن. قال الإمام القرطبي: "وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت والقساوة والانصراف والحمية والإنكار...
فقال في الإنكار: {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [النحل:22]، وقال في الحمية: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح:26]، وقال في الانصراف: {ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} [التوبة:127]، وقال في القساوة: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]، وقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74]، وقال في الموت: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]، وقال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ} [الأنعام:36]، وقال في الرين: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، وقال في المرض: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [البقرة:10]، وقال في الضيق: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125]، وقال في الطبع: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة:87]، وقال: {بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155]، وقال في الختم: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} [البقرة:7]. (القرطبي: 1/232)
وفي مقابل وصف: ميت؛ أطلق الله على كل من قُتِل جهاداً في سبيله لفظ: حي، بل حرَّم علينا أن نطلق عليهم لقب أوات، وما ذلك إلا لحياة قلبه، فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]
فنهانا سبحانه أن نطلق على الشهيد كلمة: ميت، فهو حي في حياته وبعد رحيله، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن طلحة بن عبيد الله وهو حي: «طلحة ممن قضى نحبه» [صححه الألباني].
فالحي حي في حياته وبعد مماته، وميت القلب ميت في حياته وبعد موته، وحياة قلب الشهيد توحي بها معنى كلمة شهيد والتي تعني أنه شهد على الغيب حتى صار عنده شهادة، ولآنه رأى بقلبه ما لا يراه الناس إلا بعد موتهم؛ فأقدم على التضحية بأغلى ما يملك؛ كوفئ باستمرار إطلاق صفة الحياة عليه حتى بعد الموت.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى